فصل: قال ملا حويش:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



59 {ذَنُوبًا}: نصيبا مثل نصيب أصحابهم الذين أهلكوا. اهـ.

.قال ملا حويش:

تفسير سورة الذاريات:
عدد 17- 67- 51
نزلت بمكة بعد سورة الأحقاف وهي ستون آية، وثلاثمئة وستون كلمة، وألف ومئتان وتسعة وثلاثون حرفا، لا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
قال تعالى: {وَالذَّارِياتِ ذَرْوًا} الرياح التي تذر التراب وغيره فتفرقة وتبدده تشبيها بتذرية الهشيم لاجتماع التفرق في كل {فَالْحامِلاتِ وِقرًا} السحب التي تحمل المياه حملا ثقيلا {فَالْجارِياتِ يُسْرًا}.
3 الفلك التي تجريها الرياح على الماء بسهولة وتؤده، كما يشعر به قوله يسرا، ويراد بها السفن ذات الشراع {فَالْمُقَسِّماتِ أَمْرًا} 4 الرياح التي تقسم الأمطار وتفرق السحب إلى حيث يشاء اللّه وبالمقدار الذي يعلمه الكائن بأمره، لا دخل ولا تأثير لها ولا لغيرها بشيء منه.
هذا، وقد أقسم اللّه تعالى بهذه الأشياء لعظم منافعها وجواب القسم قوله: {إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ} حق لا خلف فيه فكل ما أخبركم به الرسول من البعث والحساب والثواب والعقاب والجنة والنار صدق لا مرية فيه {وَإِنَّ الدِّينَ} الجزاء على الأعمال وغيرها حسنها وسيئها والحساب عليها {لَواقِعٌ} 6 حتما والوعد به منجز حقا ثم أكد قسمه بقسم آخر فقال: {وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ} 7 البناء المتقن الرصين الذي لا تفاوت فيه المستوي الحسن البديع الخلق، المزيّن بالنجوم البديعة وقيل الطرق، قال زهير:
مكلل بأصول النجم تنسجه ** ريح فريق لضاحي مائه حبك

جمع حبكة كطريقة يقال حبك الماء للتكسّر الجاري فيه إذا ضربته الريح، ويؤيد الأول قوله تعالى في الآية 47 الآتية {وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ} والآية 5 من سورة والشمس {وَالسَّماءِ وَما بَناها} في ج 1، وقوله: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّماءُ بَناها} الْآيَة 27 من النازعات الآتية وأقسم تعالى بها لحسن خلقها وجواب القسم قوله: {إِنَّكُمْ} يا أهل مكة ويا أيها الناس أجمع {لَفِي قول مُخْتَلِفٍ} 8 فيما أنزلناه على رسولنا فمنكم من يقول ساحر ومنكم من يقول كاهن ومن يقول شاعر ومن يقول أساطير الأولين في حق القرآن وكهانة وسحر أيضا، ومنكم من يقول افتراه من نفسه وتعلمه من الغير، ومنهم من يقول لو نشاء لقلنا مثل هذا {يُؤْفَكُ} يصرف {عَنْهُ} عن الإيمان به {مَنْ أُفِكَ} 9 من صرفه اللّه عن خيره وحرمه من هداه ومنعه من رشده بسبب اختلاق هذه الأكاذيب {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} 10 الكذابون المبهتون {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ} غفلة وجهالة وعمى {ساهُونَ} 11 عن التعرض لنفحات نور القرآن لاهون عن التفكر في معناه معرضون عن الإيمان به لشدة انهماكهم في زخارف الدنيا وتوغلهم في شهواتها {يَسْئَلُونَ} سؤال سخرية واستهزاء {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} 12 الذي تذكره لنا يا محمد، كأنهم أعماهم اللّه يريدون أن يريهم إياه عيانا، فقل لهم يا سيد الرسل يرون اليوم الذي يسألون عنه {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} 13 يحرقون فيها، يقال فتنت الشيء أحرقته وأزلت خبثه لتطهر خلاصته، وسيعرفونه حقا يوم تقول لهم خزنة جهنم {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} عذابكم المعد لكم الذي هو نتيجة كفركم بالرسل ومرسلهم والكتب والبعث والحساب والعقاب والجنة والنار ونمرة جحودكم بذلك التي اقتطفتموها بأيديكم الأثيمة ويقال لهم أيضا {هذَا} الإحراق والتعذيب هو {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} 14 وتسألون عنه في الدنيا {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} في ذلك اليوم {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} 15 جارية بينها {آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ} من الكرامة وحسن القبول لأن الأخذ قبول عن قصد {إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ} في حالة الدنيا قبل دخولهم الجنة {مُحْسِنِينَ} 16 في أعمالهم ومعاملاتهم مع أنفسهم وغيرهم.

.مطلب قيام الليل وتقسيم الأعمال والصدقات والتهجد وآيات اللّه في سمائه وأرضه:

ثم وصف معاملتهم معه جل جلاله بقوله: {كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ} 17 لأنهم يؤثرون عبادة اللّه على النوم فيستغرقون أكثره بالصلاة والذكر {وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} 18 ربهم عن تقصيرهم بالنهار أيضا لأنهم عرفوا أنهم مهما عبدوه لا يؤدون بعض شكره، على حد قول الشيخ بشير الغزي دفين حلب رحمه اللّه:
لو أن كل الكائنات السنه ** تثني علي علاه طول الأزمنه

لم تقدر الرحمن حق قدره ** ولم تؤد موجبات شكره

إلخ ما جاء في أرجوزته في نظم الشمسية في علم المنطق، وهؤلاء الكرام دعموا إيمانهم بالعمل الصالح الجثماني والمالي أيضا، يفيده قوله عز قوله: {وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ} منها معلوم لديهم يعطونه {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} 19 الذي ليس عنده شيء ولا يجري عليه شيء من الزكاة المفروضة ومن صدقة الفطر والتطوع، إذ يجوز فيها انفاق ما زاد على الحاجة كما في الآية 22 من سورة البقرة في ج 3 المنبه عن إنفاق الفضل عن الحاجة، وهذا الإنفاق رغبة وعن طيب نفس طلبا لما عند اللّه من الثواب، لأن الأعمال الصالحة ثلاثة: مالي فقط وهو الزكاة، وجثماني فقط وهو الصلاة والذكر، ومالي وجثماني وهو الحج.
والمحروم هنا يراد به واللّه أعلم.
المتعفف الذي لا يسال بدليل قرنه بالسائل، ولهذا نبه اللّه عليه، لأن الناس غالبا لا يعطون إلا من يسأل ولا يكادون يعطون المتعفف لظنهم أنه مكتف، ولكن اللّه تعالى ذمّ الذين لا يعرفونهم إذ يجب على الأغنياء تفقد أمثالهم لأن التصدق عليهم أفضل منها على غيرهم، وقد جاء بالخبر: اختاروا لصدقاتكم كما تختارون لنطفكم، قال تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافًا} الْآيَة 271 من البقرة في ج 3 فقد جعل جل شأنه الذين لا يتفقدون المتعففين جهلاء ليتقضوا لذلك ويرفعوا عنهم وصمة الجهل وليتعظ الذين يريدون وجه اللّه في صدقاتهم، وإنما خص الأسحار بالاستغفار لأنها في ثلث الليل الأخير وهو وقت مبارك فيه يطلع اللّه تعالى على عباده وهو وقت غفلة أكثر الناس، ولهذا فإن العارفين سارعوا إلى التهجد فيه، لأنهم يعرفون ما فيه، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟».
ولمسلم قال: «فيقول أنا الملك أنا الملك»، وذكر الحديثين، وفيه «حتى يضيء الفجر»، وزاد في رواية «من يقرضني غير عديم ولا ظلو»م؟ يريد نفسه تقدست وعلت.
فمالكم أيها الناس معرضون عن التعرض لهذه النفحات القدسية والرحمات الرحمونية، فهلموا إليها اغتنموها ولا تضيعوا أوقاتكم سدى وتهملوا أنفسكم فيفوتكم هذا الخير في هذا الوقت فهو مظنة القبول، والإجابة إذا صحت النية وخلصت من الأهواء وكانت الرغبة إلى اللّه متوفرة، وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: «كان النبي صلّى اللّه عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال اللهم لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت لا إله غيرك، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم».
وروى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال: «من تعارّ في الليل (يقال تعار الرجل من ذنوبه إذا انتبه وله صوت) فقال لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد للّه وسبحان اللّه، واللّه أكبر، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، ثم قال اللهم اغفر لي أو قال دعا استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته».
ولهذا جعلت صلاة الليل من السنن المؤكدة لما فيها من الثواب العظيم في الدنيا بتنوير القلب وتطهيره، وبالآخرة بالفوز في جنات النعيم.
واعلم أن المراد من هذا الحق حق الزكاة المفروضة لأن هذه الآية جاءت بمعرض الإخبار عن أوصاف المتقين فلا يقصد منها الإنشاء فيقال إن السورة مكية والزكاة لم تفرض إلا في المدينة، وسبق أن ذكرنا غير مرة بأن الزكاة لا على قدر المفروض بالمدينة، كانت متعارفة قديما قبل الإسلام وبعده، راجع الآية 7 من سورة فصلت المارة، وكذلك الصلاة كانت متعارفة إذ لم تخل أمة منهما، إلا أن القدر والهيئة لم يكونا على ما نفعله الآن، وان اللّه تعالى لم يبين في كتابه ذلك وإنما أبانه حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم أما الأصل فقد تعبد اللّه به الأمم كافة بواسطة رسله، قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ} واضحات عظيمات الدلائل على وجود الإله القادر وحكمته البالغة وتدبيره الباهر لما فيها من الجبال والأودية والأنهار والعيون والبحار والمسالك والفجاج والطرق للسائرين فيها، فمنها السهل والوعر والصعب والرخو والرملة والعذبة والسبخة والمعادن المتنوعة والدواب المنبئة المختلفة في الصورة والشكل واللون والكبر والصغر، فمنها الطيب والخبيث، والمفترس والهادئ، والنفور والألوف، وفيها أنواع النبات والأشجار المثمرة وغيرها، المتباينة في الجنس والنوع والفصل والضر والنفع والطعم والرائحة وغير ذلك {لِلْمُوقِنِينَ} 20 باللّه المصدقين بكتبه ورسله واليوم الآخر المستدلين بها على مبدعها، الآخذين العظات والعبر من كيفياتها وكمياتها وماهيتها.
{وَفِي أَنْفُسِكُمْ} أيها الناس آيات جليلة وعظيمة وعظات كبيرة {أَفَلا تُبْصِرُونَ} 21 إبصار ناظر مدقق ونظر مبصر محقق يستعين بعين بصره على عين بصيرته فيتعظ بما انطوى عليه جسمه من البراهين الدالة على الخالق إذ ليس في العالم من شيء إلا وفي ذات الإنسان له نظير، وذلك مثل انفراده في هذه الهيئة النافعة والمناظر البهية والتركيبات العجيبة، والتمكن من الأفعال البديعة واستنباط الصنايع المختلفة، واستجماع الكمالات المتنوعة، واحتياره على سائر الحيوانات بالنطق واعتدال القامة، وكما أن الإختلاف في الأرض والمياه والحيوان والطير والحوت والحشرات فكذلك هو الإنسان، فمنه الأسود ومنه الأحمر والأبيض والأصفر وما بين ذلك، ومنه الاختلاف في المأكل والمشرب والملبس والمنام، ومنه اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع، فمنها ما هو من أصل واحد، ومنها ما هو من أصول متنوعة، ومنها ما هو موافق للحيوان بسبيل الطعام ومجرى الشراب ومخرجهما، وقد بيّنا مراتب خلق الإنسان في الآيتين 64/ 67 من سورة المؤمن، فراجعهما واعتبر وتيقظ.
ويكفي على عظمة الخالق وكمال قدرته خلق أصلك من تراب وأنت من نطفة فعلقة فمضغة فلحم ودم وعظم، ثم روح وحركة وكلام وسمع وبصر وعقل وشباب وكهولة وشيخوخة وهرم، وكذلك في الغذاء فمنه موافق لغذاء الحيوان كالحضروات والحبوب واللحم، ومنها ما هو مباين كالتبن والشوك والحشيش وغيره.
واعلم أن اللّه تعالى جمع في الإنسان ما لم يجمعه في الحيوان، لأن الحيوان الذي يأكل اللحم لا يأكل النبات والذي يأكل النبات لا يأكل اللحم غالبا، والإنسان يأكلهما معا، وجمع فيه ما لم يجمعه في الملائكة، ولا في الحيوان، لأن الملك له عقل بلا شهوة، والحيوان له شهوة بلا عقل، والإنسان جامع لهما، فسبحان من أودع في كل خلقه عظات لا تحصى وعبرا لا تستقصى، وللّه در القائل:
دواؤك منك ولا تشعر ** وداؤك فيك ولا تبصر

وتحسب أنك جرم صغير ** وفيك انطوى العالم الأكبر

.مطلب في الرزق وأنواعه وحكاية الأصمعي، وفي ضيف إبراهيم عليه السلام:

قال تعالى: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ} 22 به مقدر عند اللّه تعالى على تعاطي الأسباب، فقد يكون عفوا وبتسخير الغير، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} الْآيَة 2/ 3 من سورة الطلاق في ج 3، راجع هذا البحث في تفسيرها وفي كتاب قوت القلوب لأبي طالب المكي تجد ما لا يخطر يبالك.
واعلموا أيها الناس أن ما قدر لكم لا حق بكم لا محالة وإن أعرضتم عنه، أما غير المقدر فلو طلبتموه بجميع أسباب السعي فلن تدركوه، فدع أيها العاقل همك واهتمامك فيه:
الذي إليك حاصل لديك ** والذي لغيرك لم يصل إليك

ومن الرزق ما هو مقسوم، قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} الْآيَة 32 من سورة الزخرف المارة، ومنه ما هو مضمون وهو ما به قوام البنية لأن اللّه قدره له عند خلقه، ويطلق الرزق على المطر لأنه سببه من إطلاق السبب وإرادة المسبب عنه، ولأنه نفسه رزق، لأن الماء من أعظم الأرزاق وأنفعها، راجع الآية 13 من سورة المؤمن والآية 5 من سورة الجاثية المارتين، وكذلك فإن ما أودعه اللّه فيها من الزّين والكواكب والمطالع والمغارب التي ينشأ عنها اختلاف الفصول من مبادئ الرزق أيضا، والعلم بسيرها ومنازلها وبروجها وما أودعه اللّه فيها من التأثير لنضج الأثمار والحبوب وتلوينها وطعمها والشفاء من الأمراض والعاهات رزق أيضا، فكل ما توعدون به أيها الناس في الدنيا والآخرة من خير وشر ونفع وخسر رزق أيضا، فابتغوا عند اللّه الرزق، وخذوا من كل شيء أحسنه لتفوزوا وتنجوا.
قال تعالى مقسما بذاته العالية {فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ} إن كل ما توعدون به على لسان رسلكم {لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} 23 وهنا جواب القسم الثالث العظيم من لدن حضرة الرب العظيم، أي فكما كل إنسان ينطق بلسانه ولا يتمكن من النطق بلسان غيره فكذلك يأتيه رزقه الذي قسم وقدر له في الدنيا ولا يقدر أن يأكل رزقه غيره، وان ما وعده به رسوله في الآخرة من البعث والحساب والعقاب والثواب واقع لا ريب فيه، كما أنه لا شك لكم في نطقكم، فلا تظنوا خلافه، وهذا من قبيل ضرب المثل كقولك (إن هذا الأمر كما ترى وتسمع) أي كما أنك لا تشك أنك ترى وتسمع فلا تشك في هذا الأمر.
قال الأصمعي أقبلت من جامع البصرة، فطلع علي أعرابي على قعود، فقال ممن الرجل؟ فقلت من بني أصمع، قال من أين أقبلت؟ قلت من موقع يتلى فيه كتاب اللّه، قال أتل على شيئا منه، فتلوت {وَالذَّارِياتِ} إلى قوله تعالى: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ} الْآيَة، قال حسبك، فقام على قعوده ونحره ووزع لحمه على من أقبل وأدبر، وعمد إلى قوسه وسيفه فكسرهما وولى.
وقد عجبنا جميعا من حاله وفعله وإدباره، ثم بعد سنين حججت مع الرشيد وطفقت أطوف البيت، وإذا بمن يهتف بي بصوت رقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي، وإذا قد نحل جسمه واصفر لونه، فسلم علي واستقرأني السورة، فقرأتها حتى بلغت الآية، فصاح وقال قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، ثم قال وهل غير ذلك؟
قلت بلى، قال زدني، فقرأت {فَوَرَبِّ السَّماءِ} الْآيَة، فصاح وقال يا سبحان اللّه من الذي أغضب الجليل الجبار حتى حلف، ألم يصدقوه حتى حلف؟ وكرر هذه الجملة ثلاثا وخرجت معها نفسه.
رحمه اللّه رحمة واسعة ورزقنا التصديق بآيات اللّه تعالى على ما يريده.
ثم شرع يقص لحبيبه ما وقع لجده، وهذه القصة ولو أن فيها بعض ما قصه سابقا إلا أن القصص المكررة كل واحدة منها فيها ما لم يكن في غيرها ولنفي بالمقصود، وهذا من بلاغة القرآن العظيم وفوائد التكرار: